إن سجل موضوع الثقافة حضورا متميزا في الخطاب حول غرامشي فإن مسألة الثقافة تكاد تكون غائبة فيه. فلقد وقع الاهتمام بمسألة الكتلة التاريخية والهيمنة والتفكير السياسي والفلسفة. ولعل موضوع المثقفين أكثرها انتشارا وأوسعها تناولا وأجلاها ظهورا وبروزا. بينما التفت مسالة الثقافة في دائرة الصمت، شرخا تسرب إليها تفصلها قطعا مجزأة، قطعة الأدب وقطعة اللغة، وقطع أخرى، فكانت مسألة الثقافة قطع التجزئة ولم تكن “مقاطعة التناول” كان تناولا بالإشارة والتعريج، بالإثارة والتحميص. إثارة الإشكال، هو لطرح الجوهري للسؤال الجانب من التنظير الغرامشي متموضع في مسألة الثقافة، أما الدراسة الدقيقة هي تحليل عمق الإشكال.
لم يكن موضوع الثقافة عند غرامشي تحت الطلب وإنما على حافته، حافة التعدّي إلى الطلب الآخر بين حافتين، حافة المتروك وحافة الاهتمام. بقي “الموضوع” في خطاب الاختلاف مرتدا بين الاثنين، في مسافة الاستقرار بين اليقظة والإغفاءة. إن وضعية الاستقرار وإطباقة الصمت وتجزئة التناول والوقوع بين الحافتين لمسألة الثقافة، قد نجد لها مبررات في النص الغرامشي نفسه وقد تكون في طبيعة الموضوع.
وإن وقع الحديث عن الثقافة فإنه من قبيل الذكر وحصر الموضوع، فعادة ما تحصر الثقافة في الإيديولوجيا فحالة اللبس بين الثقافة والإيديولوجيا ذات منطلقات إيديولوجية، بين الإيديولوجيا المضادة. إذ نجد العنكبوت الإيديولوجي خلف الستائر مترقبا ضحاياه للوقع في شباكه، فيقوم بفصل المسائل المعرفية عن مدارها العلمي المعرفي، ليتحنطها في قولته الإيديولوجية، فيقول الدكتور عمّار بلحسن: “أن طريق الماركسية محفوف بشرطة الإيديولوجية والتقليد وطرق التفكير والحياة” ومحاصر بأنساق المشترك، وتكون الطبقات المسيطرة عليها في حالة تبعية إيديولوجية طوعية أو مفروضة أو مفروضة فرضا، فنتخذ شكل الطوعية في مستوى القبول الشكلي للطبقات المهيمن عليها بتعبيراتها القولية والممارسية.
“الإيديولوجيات مكوّنات تطبيقية ووسائل توجيه فبالنسبة للمهيمن عليهم تكون جملة أوهام وخديعة قاسية بينما تكون للمهيمنين خديعة مرادة وواعية” .
فمن الضرورة أن يكون الطرف الثاني من البنى الفوقية ذي اختلاف جوهري في تركيبته وممارساته بتغيير هيكلي للفكر والذهنيات والممارسات السلوكية، من خلال القيام بعملية تطهير لتخليص الفكر والذهنيات والأشكال الثقافية من الأوهام العالقة بها عبر الفكر النقدي المتمثل في فلسفة البراكسيس والمعرفة العلمية النقدية وخلق الحسّ الجديد. وتمتلك الثقافة الفاعلية والحيوية في النشاط بخلق بنية فوقية جديدة أصيلة وجذرية عبر توحدها بالطبقات المهيمن عليها، أي تحقيق وحدة النظرية والممارسة وردم الهوة الفاصلة بين العالم الثقافي والبسطاء “les simples” عبر الارتقاء بالوعي في ممارسة النقد، فتنتقل الهيمنة الإيديولوجية إلى الطرف الثاني، فيقول غرامشي: فلسفة البراكسيس تأكيد للاستقلالية والأصالة باحتضانها ثقافة جديدة تتطور مع تطور علاقات العلاقات الاجتماعية” .
2- النسق المفاهيمي:
يتكون النسق المفاهيمي الغرامشي من مجموعات من المفاهيم والمقولات ذات علاقات متنوعة يضبطها نسق يحدد حركتها ويحكمها وفق مفهوم محوري “الهيمنة” الذي شكل إضافة نظرية في التنظير الماركسي عامة. إن النسق المفاهيمي هو الدرجة العليا من البنية النظرية.
ويقوم النسق المفاهيمي على جهاز مفاهيمي محدد من المفاهيم ويتحول الجهاز إلى نسق مفاهيمي بحركة سيرورة الجهاز بحركة النسق المفاهيمي (الآليات الداخلية أجهزة تذيع وتنشر تصورات وأفكار أخرى للحياة” .
فيعتبر كارل ماركس Karl Marx الأيديولوجيا، جملة أوهام تحجب عن الطبقات المضطهدة الوعي بمصالحها الطبقية “ترفع فوق أشكال الملكية المختلفة في ظروف الوجود الاجتماعية بنية قوية متكاملة من الأحاسيس والأوهام وطرق التفكير والمفاهيم الفلسفية خاصة: لخلقها طبقة بكاملها تشكلها على قاعدة هذه الظروف، والمادية والعلاقات الاجتماعية والملائمة لها…” .
وإن أكد ماركس على قيام الإيديولوجية والبنية الفوقية على الأساس الاقتصادي، فإن ذلك يعد مساهمة في تناول مسألة الإيديولوجيا، فكان على الماركسيين تطوير هذه المقولة بتوضيح العلاقة بين البنية التحتية والبنى الفوقية وعلاقة الإيديولوجيا بالمعرفة. وتعدّ مساهمة غرامشي في هذا المجال مهمّة بقوله بفكرة “الوساطات”. كما أن مساهمة مهدي عامل لا بدّ أن نعطيها جانبا من الأهمية إذ يقول: “الممارسة النظرية ممارسة إيديولوجية إنها شكل منها ونقيض لها في آن معا” .
تساهم البنى النظرية في تطوير الممارسة العلمية بما أنها بحث في الواقع الخصوصي في علاقاته وقوانينه وآلياته الداخلية في مختلف مستويات الواقع. فالمعطيات النظرية مفاهيمية تجريدية تعطي قواعد نظرية تساهم في توضيح الإشكاليات المطروحة على مستوى الواقع التاريخي.
أما الممارسة الإيديولوجية، هي تحويل المعطيات النظرية إلى ممارسة علمية في إطار البنية الاجتماعية وما يعتمل فيها من تناقضات بين القوى الاجتماعية. ويضيف مهدي عامل بقوله الفكر الماركسي حركة من البحث العلمي و استعادة مستمرة لمعطيات علمية في ضوء ما توصل إليه العلم من معرفة متجددة” .
في تناول مسألة الإيديولوجيا هي محاولة توضيح الاختلاف بين الإيديولوجي والنظري المعرفي. نفترض أن لكل مسألة مميزاتها النسبية عن الأخرى ولكل واحدة حقلها البنيوي المميز لها. فإذا ما ارتبطت النظرية بالممارسة الإيديولوجية فإن المعرفة نشاط علمي متواصل يكسب النظرية تجددها وتجعلها مناسبة للواقع التاريخي الموجود فيه. أما إذا ما انغلق النسق النظري على نفسه، تتحول إلى إيديولوجية متحجرة لا تواكب الواقع في تطوره وتعدّ معرقلة له، كابحة التطوّر وعنصر التقدم. أما إذا ما استلهمت النظرية العناصر الجديدة من الحقل المعرفي، فإنها تصبح أكثر حيوية ونشاطا، تواكب الواقع في تجدده، تفعل فيه، ويعطيها أرضية خصبة للانطلاق من جديد، بنفس جديد وبروح جديدة، متحولة عبر الحقل الإيديولوجي إلى عنصر فعال لتغيير الواقع والذهاب خطوة نحو الممكن والمأمول.
تناول غرامشي في مسألة التنظيم والثقافة ومشكلة النقد الأدبي ومسألة اللغة فتعتبر هذه النصوص مبحثا خاصا في الثقافة، لكن نجد أن مسألة الثقافة تخللت النص الغرامشي عامة، في صيغة نظرية مجردة ارتباطا بالمسألة المعرفية، والفلسفية، والتاريخ والتطهير Catharsis والتنظيم السياسي، والعلم، والواقع الخصوصي والفردية والوحدة الثقافية لجملة ثقافات مختلفة والوحدة الثقافية الاجتماعية ومسألة التقدم والمنطق والاقتصاد وتغيير الذهنيات.
ارتبطت الثقافة عند غرامشي بجملة من العلاقات المتشابكة والمتداخلة، مع عناصر مختلفة، مما جعلنا نجد صعوبة في الولوج إليها والنفاذ إلى عمقها، إضافة إلى توزعها على كامل النص إذ يتطلب منا العمل في المسألة الثقافية أن نجد حدّا أدنى في التجانس لربط العلاقات والعناصر المختلفة.
فلا يمكن فهم المسألة الثقافية إلا إذا ما ضبطنا موقع الثقافة في النسق النظري الغرامشي في بنية النص، ببحث عناصرها ومساراتها بالمفاهيم الغرامشية عامة، وميزاتها الأساسية.
أشرنا فيما سبق أن النسق النظري الغرامشي نسق حركي محكوم بجملة من العلاقات المتداخلة والمتنوعة بتحرك النسق وفق سيرورة تطور المفاهيم، في أشكال متعددة ومتنوعة، ففي كل فترة من حركة السيرورة النسق تتحول عناصرها إلى مواقع جديدة مختلفة عن غيرها في تمظهرات متجددة. وفي كل مرحلة من هذا تطور هذا يتخذ النسق شكلا جديدا ومظاهر أخرى. فيمكن تقسيم النسق النظري الغرامشي إلى نسق بنيوي ونسق مفاهيمي في محاولة فهم موقع المسألة الثقافية عند غرامشي.
1/ النسق النبوي:
إن النسق البنيوي النظري، نسق عام يوحد العناصر البنيوية للنسق ذاته يجعلها في حالة اللافكاك في تماسك شديد الربط والترابط وفق كلية جامعة للعناصر البنيوية محورها الأساسي الصراع التناقضي المهيمن في مستوياته العلوية / السفلية والأفقية / العمودية متخذة شكل الهيمنة في المستوى الإيديولوجي، وشكل السيطرة في المستوى السياسي، في المستوى الاقتصادي يهيمن أحد الأشكال المستويات البنيوية وفق المرحلة التي تمر بها البنية الاجتماعية الشاملة.
إن البنية الاجتماعية الشاملة هي وحدة البنية الاقتصادية بالبنى الفوقية أو ما يسميه غرامشي الكتلة الاجتماعية الثقافية bloc culturel في تميزها الثقافي.
والتميز الثقافي هو الشكل الجديد التي تتخذه في مستوى الثقافي المرتكز على إطار اجتماعي محدد. فيقول: “ومن جهة أخرى لا يمكن أن يحصل على عضوية الفكر وصلابة الثقافة إلا إذا كانت وحدة المثقفين بالبسطاء ممثلة في وحدة النظرية بالممارسة، وإلا إذا كانت علاقة المثقفين بالجماهير عضوية لتحقيق التجانس بين المبادئ والإشكاليات التي تطرحها الجماهير عبر نشاطها الفعلي مكونة كتلة ثقافية واجتماعية” .
أ) النسق االبنيوي في فتراته الثلاث:
ترتبط البنية الاجتماعية الشاملة بجملة من العلاقات للقوى الاجتماعية حيث يكون الوجود الاجتماعي ذي استقلالية نسبية عن الوعي الاجتماعي، لكن رغم وجود هذه الاستقلالية النسبية فإن البنية الاقتصادية هي المحددة في آخر المطاف، إذ يشقها صراع أساسي وجوهري المتمثل في التناقض الجوهري بين القوى الاجتماعية فيكون هذا الوجود الاجتماعي الموضوعي خارج الإرادات الجماعية الاجتماعية، “تكون العلاقة القوى الاجتماعية، وثيقة الارتباط بالبنية الاقتصادية الموضوعية المستقلة عن إرادة البشر… على قاعدة درجة تطور القوى المادية في علاقات الإنتاج التي تكون فيها المجموعات الاجتماعية فكل واحد منهم يقوم بدوره حسب موقعه الاجتماعي المحدد في علاقات الإنتاج… إن هذه التركيبة الأساسي تسمح لنا بدراسة إمكانية التحولات الاجتماعية الشاملة حسب الشروط الضرورية والمناسبة” .
تمرّ البنية الاجتماعية بثلاث أطوار وهي:
• المرحلة الاقتصادية القطاعية: تمثل مرحلة الوعي الاقتصادي الدرجة الدنيا من الوعي الاجتماعي الطبقي وتسمى بالفترة القطاعية أو الفئوية le moment economic corporatif حيث تشعر المجموعة الحرفية بوحدة مصالحها فيتضامن التاجر مع تاجر آخر، والصنائعي مع الصنائعي الآخر لكن لا يتضامن التاجر مع الصنائعي. “وهذا يعني أن ذلك يضمن وحدة وتجانس المجموعة الحرفية الذي يعني تنظيمها لكن لا تصل إلى مجموعة اجتماعية واسعة” .
وقد تصبح المجموعة االحرفية منغلقة في شكل طائفي تقف أمامه تطور الوعي الاجتماعي.
• مرحلة وحدة المجموعة الاجتماعية:
نمرُّ إلى المرحلة الثانية والتي تكون فيها المجموعة الاجتماعية راعية مصالحها الطبقية، إذ تتوسع دائرة التضامن من الوحدة الاجتماعية في مستواها الطبقي رغم الاختلافات القطاعية الحرفية، لكن يبقى هذا الوعي مقتصرا على الوعي بالمصالح الطبقية الاقتصادية فيمكن أن نسميه بالوعي النقابوي حيث تدافع الفئات الاجتماعية والطبقات على مصالحها من موقع اقتصادي صرف إذ تقتصر مطالبها من الدولة على المساواة القانونية والسياسية فتعتبر أن الدولة فوق الطبقات. يكون الوعي وعيا مطلبيا حسب الممارسات القانونية باحترام مؤسسات الدولة عبر أجهزتها الإدارية، تطالب الفئات والطبقات الاجتماعية في الفترة الثانية بالإصلاحات اقتصادية وسياسية وقانونية في ظل المحافظة على النسق الاجتماعي المسيطر وتحاول الطبقة المهنية اجتماعيا المحافظة على البنية أو التركيبة الاجتماعية فتكون لها السيطرة في المستوى السياسي والهيمنة الإيديولوجية ماسكة بآليات الصراع في مستوياته الثلاث. أما إذ ما حدثت أزمة أحد هذه المستويات واستفحلت فإنها تقوم بتنازلات للطرف الثاني في التناقض لكي لا يصل هذا الطرف إلى مرحلته الهيمنية الذي يشكل عليها خطرا قد يؤدي إلى انقلاب جذري في مستوى العلاقات الاجتماعية ولذلك تستجيب إلى بعض المطالب للطبقات المضادة لها للإمساك بالخيط الأساسي للصراع.
• مرحلة الوعي الاجتماعي السياسي: تصل الفئات والطبقات الاجتماعية إلى مرحلة الوعي السياسي في الفترة الثالثة فيعون مصالحهم الطبقية مما يولد بينهم درجة من الوحدة والتضامن مجتازين المرحلة الحرفية وباحثين عن الممكن السياسي المستقبلي، فتبرز بين هذه الطبقات طبقات عضوية تقوم تحالف مع الطبقات والفئات الاجتماعية وفق المصالح الطبقية المشتركة فتدخل مرحلة السياسية مباشرة من أجل الهيمنة خالقة نسقا جديدا وبنية جديدة فيقول غرامشي عن هذه المرحلة: “يتوضح جليا المرور من البنية التحتية إلى حقول البنى الفوقية المعقدة والمركبة des superstructures هي مرحلة تحول الإيديولوجية التي اعتملت داخليا إلى “حزب” الذي بخضوع صراعا من أجل تغيير تركيبة اجتماعية بكاملها لا تقف في الحدود الاقتصادية والسياسية فقط بل تصل إلى وحدة ثقافية فكرية قيمية هي مرحلة هيمنة طبقة عضوية أساسية إلى الفئات والطبقات التابعة لها، وتمثل الدولة بالنسبة إليها أداة أساسية من أجل الانتشار وتطوير كل الطبقات الوطنية” .
فتكون الكتلة الاجتماعية والثقافية أقصى ما تصل إليه سيرورة تطور الثالثة التي يغلب عليها الصراع في المستوى السياسي.
ب) حركات النسق البنيوي:
يختل النسق البنيوي عن البنية بالحركة، وحركة النسق هي حركة عناصر البنية وتحكم علاقات عناصر البنية بحركات النسق. فقد أسلفنا القول بأن النسق النظري الغرامشي محكم بحركتين أساسيتين حركة سفلية وعلوية وحركة أفقية عمودية، فما يميز هذين الحركتين هو تمفصل السفلي العلوي والأفقي العمودي، وهذا يعني أن تمفصل الحركية تختلف عن الفصل القاطع وقد يظهر لنا الفصل القاطع المتحول في حركة تمفصل.
• الحركة السفلية العلوية:
تقول البنية النظرية الغرامشية بوجود قاعدة أساسية سفلية متمثلة في البنية الاقتصادية ويكون تكوينها خلال مرحلة تاريخية كاملة بترسخ الإنتاج التي تصبح الضابط الأساسي العام للبنية الاجتماعية الشاملة كما يكون تحويلها بنيويا أيضا، أي بتغيير جذري في علاقات الإنتاج.
فيقول غرامشي: “من الأكيد إذا ما تصورنا مفهوم البنية بشكل تأملي تصبح “إله مخفيا” ولكن لا يجب أن ننظر إليها في شكلها التأملي”، بل في شكلها التاريخي كمجموع من العلاقات الاجتماعية، يكون البشر فعليا يعيشون يتحركون في جملة من الظروف الموضوعية التي لا بد من دراستها بطريقة واقعية لا بطريقة تأملية” .
فإذا ما كانت البنية هي المحددة لمجمل البني الفوقية فإن غرامشي لا يعتبرها العامل الوحيد في التغيير “الاقتصاد بذاته de nature كما المصالح الاجتماعية سواء كانت رأسمالية أم شيوعية ومهما كان المسار التاريخي” .
أما البنية العلوية فتتمثل في البنى الفوقية مجموع أشكال الوعي الاجتماعي (الحقوق ، الفلسفة، الدين، الفولكلور، الفنون…) أي ما يتصل بالنشاط الفكري من أشكال ثقافية وتتحول البنى الفوقية إلى إيديولوجيا عندما تصبح أداة هيمنة اجتماعية في المستوى الإيديولوجي ويكون التغيير الجذري للبنى الفوقية مشروط بشرطين أساسيين، فالشرط هو أن التركيبة الاجتماعية لا تختفي إلا عندما تستنفذ كل الإمكانات تطورها (في مستوى قوى الإنتاج). أما الشرط الثاني هو أن الإنسانية لا تطرح إلا الإشكالات التي تستطيع حلها “هذا يبين لنا تعقيد البنى الفوقية التي تتطور في علاقة بالبنية التحتية” .
إن حركة التمفصل العلوية السفلية تتمثل في الوحدة المتماسكة بين البنى الفوقية والبنية التحتية، التي اصطلح غرامشي على تسميتها بالكتلة التاريخية “يجب أن نعمق المعنى الحقيقي التاريخي لمفهوم البنى الفوقية في فلسفة البراكسيس مقارنة بالمفهوم السوريلي Sorelien ولـ “الكتلة التاريخية”. إذا ما وعى البشر بوضعيتهم الاجتماعية بما هم في مجال البنى الفوقية، وهذا يعني أن هناك ربط ضروري وحيوي بين البنية والبنى الفوقية” .
وتكون هذه الوحدة بين البنى الفوقية والبنية التحتية في شكلها الثقافي في خلق ثقافة جديدة في التفكير والسلوك. ولذلك تكون عامل هيمنة إيديولوجية مضادة “قادرة على كسر الطرق الإيديولوجية للطبقات المسيطرة، وتوفير أرضية خصبة للمجتمع الجديد، أن يبدع وفق هيكل فكري وذهنية وسلوكات جديدة فيقول غرامشي في هذا المضمار: “أن خلق ثقافة جديدة لا يعني فقط أن نقوم باكتشافات أصلية فردية، ولكن يعني والأخص نشر حقائق مكتشفة بطريقة نقدية لكي تصبح اجتماعية socialiser وهكذا يمكن أن نقول أصبحت قواعد لنشاط حيوي وعامل ربط ونظام ثقافي قيمي” .
• الحركة العمودية الأفقية:
إن الأساسي في الحركة العمودية الأفقية هو قائمها العمودي الذي يميز بين طرفين من البنى الفوقية المعبر عنه بالصراع في مستوى الإيديولوجي. وتكون الهيمنة لأحد الطرفين. فالصراع صراع هيمنة إيديولوجية أن الطرف الأول يهيمن على المجتمع المدني أداة السيطرة الطبقية للحفاظ على التركيبة البنيوية، إذ يستخدم هذا الطرف جملة الأجهزة الإيديولوجية عبر ممارسته الإيديولوجية وتكون أشكال الإيديولوجيا في الطرف الأول تراتبية تندرج من الأعلى إلى الأسفل، بامتلاكه الجزء الأكبر من المثقفين المنحدرين حسب غرامشي من الريف يستغلون موظفي الإيديولوجيا السائدة وتكون أشكال وفاعلية الإيديولوجيا تراتبية تبدأ بالفلسفة والعلوم لتنتقل إلى مستواها العام عبر الدين وتتوسع لتصل إلى الحس تعتمل بشفافية داخل البني النظرية). وإن تناولنا المفاهيم والمقولات الغرامشية في الفصل الأول والفصل الثاني، فإننا نؤكد في هذه النقطة على النسق المفاهيمي في حركة تجانسه، إذ يشكل مفهوم الهيمنة عند غرامشي المحور الرئيسي للنسق المفاهيمي تدور حولها جملة من المفاهيم الأخرى ومحورا أساسيا للكتلة التاريخية، حلقة الربط بين البنى الفوقية البنية التحتية. إذ يقول غرامشي: “تصبح مجموعة اجتماعية تابعة مستقلة وعضوية “هيمنية” hégémonie “بوجود شكل جديد من الدول، في هذه الفترة بالذات توجد فعليّا شكل نظام ثقافي وقيمي جديد، يعني وجود شكل جديد من المجتمع. ومن هنا تأتي ضرورة تكوين مفاهيم جذرية” .
فيمكن أن نعتبر أن هناك مفهومان أساسيان عند غرامشي مفهوم الهيمنة ومفهوم الكتلة التاريخية أما باقي المفاهيم فهي مكمّلة تكون بينهما (المجتمع المدني المجتمع السياسي، فلسفة البراكسيس، المعرفة العلمية، التطهير، الإصلاح الثقافي القيمي…) ومظاهر تفصيلية للمفهومين الأساسيين.
3) خاصيات الثقافة عند غرامشي:
مسألة الثقافة عند غرامشي مبحث في تعقيد البنى الفوقية وتفكيك لآلياتها. إذ هي شكل البنى الفوقية في حركاتها المتنوعة وتجليات مظاهرها. قد تعني الثقافة عنده فلسفة ومعرفة، وتغييرا للذهنيات، وتطهيرا وخلقا لعالم ثقافي جديد، وحدة الثقافة لثقافات متنوعة. ثقافة أصيلة، متجذرة، تتوحّد بالتاريخ وترتقي بالوعي، وعي نقدي ينطلق من الذات، تعددت الصفات وتنوعت الخصائص وصعب الولوج إليها. وبقي السؤال قائما باحثا عن معنى وجوده وشرعية البحث. بحث مبحث الثقافة في ثقافة تشابكت وتداخلت عناصرها فانفلت الجواب محتميا بالسؤال.
تتميز الثقافة عند غرامشي بالكلية، الجذرية والأصالة، كلية جامعة والجذرية عمق والأصالة واقعية التاريخ الوطني.
أ- الكلية الثقافية:
تبدو عناصر المسألة الثقافية متفرقة لا جامع بينها، توزعت بين المعرفة والفلسفة وبين الوحدة والتغيير وبين الذاتية والجماعية وبين الماضي والمستقبل التاريخي والتجانس والتنوع. اختلفت صورة البنى الفوقية فقال عنها غرامشي: “شكل لمضمون اجتماعي حقيقي وطريقة لاستدراج تركيبة المجتمع لخلق وحدة قيمية” .
وإن انتصبت الرؤية الثقافية عند غرامشي على التفارق والتنوع فإن هناك وحدة داخلية جمعت عناصرها وخيط ربط خصائصها تتوضح بالتدريج في مسارات البحث.
تنمو الكلية الثقافية Université culturelle بالتدريج، وليد ينمو ويتحرك في بطن البنى الفوقية “بهذه الطريقة تتهاوى البنية حالما وجد وعي وقيم جديدة في نمو وتطور، وعي وسيع وأكثر رقيّا، أنه فبدى كأنه “الحياة الوحيدة” و”الحقيقة الواحدة” بالنسبة للماضي الميت متشبثا بالحياة” .
إن من بين خصائص الوحدة الثقافية عند غرامشي التجانس والوحدة.
• التجانس:
إن التجانس الثقافي هو التناسق الفكري لمجموعة اجتماعية عضوية متمثلة في وحدتها الإيديولوجية. فتصبح الثقافة هامشية عندما يبرز التناقض بين النظرية والممارسة.
واللاتجانس بوجود عدة أنساق فلسفية في نفس الوقت، “إن التناقض بين الفكر والممارسة يظهر في تعايش تصورين للعالم، تصور مؤكد قولا وآخر تفسره الممارسة” .
يعتبر غرامشي أن النقد الوسيلة الوحيدة لتجاوز الهامشية الثقافية والوعي المجزأ إذ يقول: “يستحسن أن يكون الإنسان تصوره الخاص للعالم بوعي نقدي المرتبط بممارساته باختيار حقل نشاطه، ويكون فاعلا في التاريخ ومقادا بذاته ولا أن يقبل محيطه طوعيا” .
إن التجانس الثقافي والفكر صمام أمان للفاعلية التاريخية والاجتماعية “ضروري أن تكون تصوراتنا للعالم والحياة متناسقة ومتجانسة”