إن من بين خصائص الوحدة الثقافية عند غرامشي التجانس والوحدة.
• التجانس:
إن التجانس الثقافي هو التناسق الفكري لمجموعة اجتماعية عضوية متمثلة في وحدتها الإيديولوجية. فتصبح الثقافة هامشية عندما يبرز التناقض بين النظرية والممارسة.
واللاتجانس بوجود عدة أنساق فلسفية في نفس الوقت، “إن التناقض بين الفكر والممارسة يظهر في تعايش تصورين للعالم، تصور مؤكد قولا وآخر تفسره الممارسة” .
يعتبر غرامشي أن النقد الوسيلة الوحيدة لتجاوز الهامشية الثقافية والوعي المجزأ إذ يقول: “يستحسن أن يكون الإنسان تصوره الخاص للعالم بوعي نقدي المرتبط بممارساته باختيار حقل نشاطه، ويكون فاعلا في التاريخ ومقادا بذاته ولا أن يقبل محيطه طوعيا” .
إن التجانس الثقافي والفكر صمام أمان للفاعلية التاريخية والاجتماعية “ضروري أن تكون تصوراتنا للعالم والحياة متناسقة ومتجانسة” .
• االوحدة:
إن أحد السمات الأساسية في تصور غرامشي للثقافة ومفهوم الوحدة. وحدة ثقافات متنوعة، وحدة الثقافة بالتاريخ ووحدة الثقافي بالاجتماعي.
يعتقد غرامشي في هوة سحيقة تفصل بين المثقفين “والبسطاء” بوجود أرستقراطية وثقافة الحس المشترك، فيقول: “لا تتجه ثقافة البراكسيس إلى شدّ البسطاء” les simples ولكن بالعكس تقودهم إلى تصور أرقى للحياة. عندما تؤكّد ضرورة اتصال المثقفين بالبسطاء، ليس للحدّ من النشاط العلمي للإبقاء على المستوى وعي الجماهير، ولكن لتكوين كتلة ثقافية قيمية لكي يصبح التقدم الجماهيري ممكنا سياسيا ولا تقتصر على مجموعات صغيرة من المثقفين”.
ويضيف غرامشي بقوله: “إن التطور السياسي لمفهوم الهيمنة يمثل تقدما كبيرا للفلسفة، وليس فقط التطبيق السياسي، إذا ما احتوت وافترضت وحدة ثقافية أخلاقية متطابقة مع تطوّر حقيقي يرتقي بالحس المشترك” .
تتطور الثقافة في سيرورة تاريخية متجذرة تنفذ إلى الواقع التاريخي الاجتماعي لتلتحم به، اندماج الحاضر بالماضي والمستقبل، تستلهم من الماضي تجاربه النيّرة فتكون زاد تحمله إلى الحاضر لتبشر بمستقبل جديد. فيقول غرامشي: “يمكن أن نستنتج من هذه البنية أهمية “الخطة الثقافية” في النشاط العلمي في كل فعل تاريخي لا تكون إلا “بالإنسان الجماعي” Homme collectif الذي يطرح تحقيق الوحدة “الثقافية الاجتماعية” إذا التحمت الإرادات والأهداف المتفرقة على قاعدة تصور للعالم موحد فيه التنوع والوحدة، ويمر بمراحل انتقالية يصل هدفها النهائي لتصورات معاشة ومهضومة لتصبح إرادة فعّالة” .
تكون الثقافة جذرية عندما تنغرس في العمق التاريخي اجتماعي وفي حلّ المشاكل المستعصية للجماهير، ومن أحد سمات التجذر الثقافي في امتدادها التاريخي وارتباطها بالحقيقة التاريخية، اي في التحامها للمشاكل التاريخية الاجتماعية لطبقة أساسية تمتلك أهلية تغيير البنية الاجتماعية عن طريق الهيمنة فيعتبر غرامشي أن الجبهة الثقافية من الجبهات الأساسية داخل المجتمعات المصنعة التي تكون فيها الحرب “حرب مواقع”، فالجذرية انصهار التاريخي بالاجتماعي والاجتماعي التاريخي بالثقافي وتغيير هيكلي للذهنيات والقيم والسلوك.
يقول غرامشي في هذا المضمار: “في تاريخ الثقافة الذي هو أكثر شمولية من تاريخ الفلسفة، وفي الفترة التي تبرز فيها ثقافة شعبية متجاوزة فترة التحول حيث تنتقي طبقة جديدة سلاحها في هذه الفترة بالذات تزحف الطبقات التقليدية نحو الروحانيات، ففلسفة البراكسيس هي مسار كل حركة إصلاح ثقافية وقيمية في أنها تتجادل مع مواقع الثقافة الشعبية والثقافة العليا” .
تكون الثقافة أصلية عندما تستجيب لخطتها التاريخية وعامل ربط ونظام ثقافي قيمي، فتتمثل هذه اللحظة التاريخية في قول غرامشي: “تكون ساحة لمجموعات اجتماعية متعدّدة، واعون بوجودهم الاجتماعي وبمفاهماتهم وبمستقبلهم” .
ج- التأصيل الثقافي:
تتأصل الثقافة في تميزها الوطني، أو عندما تكون ثقافة وطنية تتجلى في لغة رسمية قومية، فاللغة الوطنية تعطي للثقافة تجانسها ووحدتها، فعبر تميزها الوطني تدخل التاريخ العالمي تغذيه وتثيره بما تتميز به من خصوصيات وطنية فلقد مثّل عمل كروتشي أثرى ما وصلت إليه الثقافة الإيطالية.
يقول غرامشي: “إن موقع كروتشي من الدين أهم نقطة تستوجب التحليل لفهم المعنى التاريخي للكروتشية Crocisme في تاريخ الثقافة الإيطالية” .
تكون الثقافة أصلية Originale عند تمركزها في علاقة أفقية عمودية، عمودية بالتحامها بطبقة تسعى إلى هيمنة الإيديولوجية عبر الممارسة الثقافية في نشر وعيها التجانسي الجذري يقبل طوعيا لضرورات التطور الثقافي التاريخي الاجتماعي وتكون أفقية عندما تصبح ثقافة لأمة بكاملها فتكون ثقافة الأمة والدولة فيقول غرامشي: “تتقابل في التاريخ الحقيقي علاقة تبادلية بين الأفقي والعمودي، في نشاطات اقتصادية اجتماعية عموديا وأفقيا على المستوى الوطني في شكل مختلف بين الاندماج والتفارق ممثلة في تنظيم اقتصادي سياسي ويكون من الضروري أن نضع في الحسبان العلاقات الداخلية لأمة والدولة التي تنفرج بعلاقات أممية خالقة تركيبات جديدة صلبة تاريخيا واقعية” .
نظرية المعرفة عند غرامشي:
بين معرفة شمولية ومعرفة علمية إبستيمولوجية تأسست نظرية المعرفة عند غرامشي معرفة شمولية أخذها عن جيوبارتي بدراسة كتابه المقدمة لدراسة الفلسفة).
تنوير العالم الثقافي في تعقيداته بتناوله موضوعاتهم (الثقافة) الوطنية والتصور الوطني للعالم ومعرفة علمية إبستيمولوجية أخذها (عن قوفي) من خلال كتابه (أساس علم المناهج، المنطق والإبستيمولوجيا).
يقول غرامشي (معنى علم المناهج عند “قوفي” ضيق جدا… يعني بالنسبة إلى تكوين المنطق الشكلي) .
إن ما يميز نظرية المعرفة عند غرامشي هو اعتباره أن كل إنسان له القدرة على المعرفة إذ تشكل المعرفة عنده ارتقاء بالوعي من خلال عملية تطهير الذهنيات، أي القيام بعملية غربلة للفكر لكي يكتسب الإنسان الوعي النقدي القادر على حلّ الإشكاليات المعرفية والتاريخية والاجتماعية.
فيمكن أن نعطي تعريفا عاما للمعرفة عند غرامشي بشكلها العام فهي علم أصل الأفكار وتصنيف العلوم حسب تقسيمات متعددة (إن مشكل المعرفة و النظريات في أصل الأفكار وتصنيف العلوم المتنوعة وتقسيمات ما يستطيع أن يعرفه من تصورات مختلفة ومن تقسيمات متنوعة للعلوم النظرية والتطبيقية) .
فعندما نقول المعرفة عند غرامشي فإننا نعني قدرة الإنسان الفعالة للإنسان، على معرفة منظمة معادة بالمنطق هادفة تغيير التصورات وتطوير المعيطات العلمية والتقنية لمجابهة الطبيعة كما أن المعرفة تكسب الإنسان القدرة على الفعل الاجتماعي.
معرفة ذات شمولية نظرية تتجذر في الواقع التاريخي في حركيته الدائمة.
تعددت وتنوعت علائق المعرفة فارتبطت فلسفة البركسيس بالواقع كعلم فكانت أبعادها متنوعة تناولت الإنسان بكلياته.
1/ المعرفة والفسلسفة البراكسيس:
أبواب فلسفة البراكسيس مشرعة على الرياح الأربع، آذنة للمعرفة بالدخول نسمة باردة هفت تململت الثقافة بين أحضان فلسفة البراكسيس لتفتح عينيها على شخص المعرفة فلسفة البراكسيس بالمعرفة لحقت والثقافة عند غرامشي وليد يتحرك في أحشاء البنى الفوقية الثقافة بين فلسفة البراكسيس والمعرفة حققت تميزها فيقول غرامشي: (الفلسفة هي نظام ثقافي) فكانت الفلسفة عالم الثقافة والثقافة عالم الفلسفة، والمعرفة بذرة تصوّر جديد لعالم متجذّر في واقعه التاريخي الاجتماعي المميز.
يعتبر النقد العلمي عنصرا أساسا في المعرفة وعنصرا مهما في فلسفة البراكسيس ففلسفة البراكسيس في حركة انفتاح دائم على المعرفة والنقد العلمي فيقول غرامشي: لا يمكن لفلسفة البراكسيس أن تكون إلا في صيغة نقاشات نقدية وتجاوزا لنظام فكري سابق باعتبارها فكرا حقيقيا لعالم ثقافي حقيقي وبشكل آخر نقد للحسّ المشترك .
إن المشترك بين فلسفة البراكسيس والمعرفة نزوعهما إلى الشمولية والتناسق في تجانسها البنيوي إذ لا يمكن للفلسفة والمعرفة أن يوجدا إلا كنظام ونسق وبنية تكون علائق المعرفة بفلسفة البراكسيس بنيوية بتحققها في مستوى الإيديولوجي وفي المجال التاريخي الواقعي والاجتماعي الثقافي.
خصائص فلسفة البراكسيس:
إن ما يميز فلسفة البراكسيس هو انفتاحها على مجالات متعددة فيمكن تلخيصها في مسارين اثنين مسار نظري ومسار واقعي تاريخي يتمثل المسار النظري في الرقي بتصور العالم والحياة إلى أرقى درجاتها كما يتمثل المسار الواقعي التاريخي في تغيير جذري للمجتمع فيمكن أن نعتبر فلسفة البراكسيس حسب تصور غرامشي هي تعميق نظري للارتقاء بالممارسة العلمية ولعلّ ستتوضح لنا فلسفة البراكسيس في عرض خصائصها ونشأتها.
النشأة:
لقد كانت الفلسفة عند غرامشي معارضة لكتابات كروتشي إذ اعتبر كروتشي أن فلسفة البراكسيس هي مجرّد تجليات فلسفية تحت تأثير العامل الاقتصادي وبالتالي إهمال دور الفكر والأخلاق اجتماعيا فيقول غرامشي تقدّم فلسفة كروتشي نفسها على أنها تجاوز لتدمير الفلسفة البراكسيس ولكن يمكن اعتبارها حركة مضادة للميكانيكية القدرية والاقتصادية فعليا أن ننقد فلسفة كروتشي في مسارها الفلسفي ليس كما تظهر لنا بل في وجودها الحقيقي وفي تمظهراتها العلمية الحقيقية والتاريخية وهذا مناسب لتقييم فكر كروتشي.
فيعترف غرامشي أن فلسفة البراكسيس ابتذلها تحت تأثير الرؤية الدغمائية فكانت زاوية نظرهم اقتصادية صرفة تعتبر أن العامل الاقتصادي العامل الوحيد الفاعل اجتماعيا أن الطريقة الوحيدة لإخصاب فلسفة البراكسيس هي الرقي بهذا التصور عن الابتذالات المتأتية والناتجة عن الاهتمامات التطبيقات الآنية فكان من المفروض والأكثر تعقيدا الذي يفرضه التطوّر الحالي للصراع بخلق ثقافة جديدة جذرية جماهيرية الخصائص تشبه الإصلاح بروتستاني وفلسفة الأنوار الفرنسية .
الخصائص:
التناقض: يعتبر غرامشي أن فلسفة البراكسيس فلسفة التنظير للتناقض فهي لا تدرس التناقض فقط بل تعطي نظرية التناقض فالتناقض ليس تناقض خارجي وإنما تناقض داخلي لظواهر الفكر وواقع التنوع لا نبحث خصائص في البنية الهندسية الخارجية ولكن في تجانسها الداخلي من أجل فهم خصوصي .
الحرية: فلسفة البراكسيس رقض للفكر والإيديولوجيا المغلقة بنزوعها نحو التحرر والحرية فلسفة البراكسيس فلسفة متحررة وتسعى إلى التحرر من كل إيديولوجيا ذات خط واحد من إيديولوجيا متحجرة إذ هي امتلاء الوعي بالتناقض وتطرح نفسها عامل تناقض لتصعد إلى المبادئ المعرفة والتطبيق العلمي .
النظرية والممارسة: ممكن أن تعتبر فلسفة البراكسيس تعميق لوحدة النظرية والممارسة باعتبارها نحت نظري إلى الارتقاء بالممارسة العلمية عبر خلق رؤية وتصور للعالم وللحياة متجانس يولّد إرادة جماعية فعالة قادرة على تعبير الواقع التاريخي الاجتماعي سواء في مستويات البنى الفوقية أو في المستوى الاقتصادي الاجتماعي هو التغيير الاجتماعي الجذري بأبعاده المختلفة فيقول غرامشي: استنتج كروتشي أن الإرادة الفعالة تغييرية للعالم وتكون المعرفة الحقيقية وليست سلوكية في النشاط العملي فنستنتج أن فلسفة البراكسيس تكون أساسا تصورا إلى الجماهير وتكون ثقافة الجماهير التي تتحرك بطريقة موحدة وليس قواعد قيادة كونية فقط في مجال الأفكار ولكن معمقة أيضا في الحقيقة الاجتماعية .
يبدو أن مسألة وحدة النظرية بالممارسة تتطلب بعض التوضيح إذ يعتبر غرامشي أنها مازالت في مرحلتها البدائية stade primaire فليست العلاقة بين النظرية والممارسة علاقة خارجية ميكانيكية يكون فيها النظرية مجرد مكمل للعمل التطبيقي أو خادمة له فلقد أكد غرامشي على ضرورة طرح مسألة النظرية والممارسة في واقعيتها التاريخية أي كمشكل مسألة سياسية عند المثقفين الذي يعتبرون أن عملهم يقتصر فقط في المجال الفكر والمعرفة وبالتالي الانفصال عن الجماهير فيكون بذلك مجرد أرستقراطي الفكر والثقافة.